تُعد أهرامات الجيزة في مصر من أكثر المعالم التاريخية غموضًا وإثارة للدهشة في العالم، وقد أثارت على مر الزمن العديد من التساؤلات حول أسرارها المحتملة. مؤخرًا، أشعلت دراسة جديدة جدلًا واسعًا بعد أن زعم فريق من الباحثين اكتشاف "مدينة شاسعة" مدفونة تحت هضبة الجيزة، لكن هذه الادعاءات قوبلت بانتقادات حادة من عالمة الفيزياء النظرية الشهيرة سابين هوسنفيلدر، التي رفضتها ووصفتها بأنها "تفاهات"، مستندة إلى تحليل علمي غير دقيق.
واهتمت الأوساط العلمية بتفاصيل هذه الادعاءات، وتابعت وسائل الإعلام ردود الفعل العلمية عليها، وحجج هوسنفيلدر لتفنيدها، ومن أبرزها تقارير صحفية "ديلي ميل" البريطانية وموقع "لادبايبل" المتخصص في التاريخ والآثار.
الادعاء: هياكل ضخمة تحت الهرم
ونشرت صحيفة "ديلي ميل" تقريرًا أعلن فيه باحثون من إيطاليا واسكتلندا أنهم اكتشفوا، باستخدام تقنيات رادار متقدمة مثل الرادار ذي الترددات العالية (SAR)، هياكل واسعة تمتد لآلاف الأقدام تحت هرم خفرع، أحد أهرامات الجيزة الرئيسية.
وقاد الدراسة باحثون مثل كورادو مالانجا وفيليبو بيوندي، اللذان زعما أن هذه الهياكل تضم آبارًا عميقة وغرفًا كبيرة، مشيرين إلى أنها قد تكون بقايا مدينة سرية تعود إلى عصور ما قبل بناء الأهرامات بآلاف السنين. وأكدوا أن هذا الاكتشاف قد "يغير التاريخ"، مدعومًا بثقة تزيد عن 85% في بياناتهم، وفقًا للتقرير.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الفكرة وليدة اليوم، فقد ارتبطت الأهرامات سابقًا بتكهنات حول ممرات وغرف خفية، مستمدة من روايات المؤرخين القدامى مثل هيرودوت أو أساطير مثل "قاعة السجلات" المزعومة تحت أبو الهول. لكن هذه المرة، بدت الادعاءات مدعومة بتقنيات حديثة، مما جعلها محط أنظار الجمهور والخبراء على حد سواء.
الانتقادات العلمية: شكوك متزايدة
لم تُقابل هذه الادعاءات بالقبول العام، بل أثارت موجة من الشكوك في الأوساط العلمية. فقد نقلت "ديلي ميل" عن عالم الرادار لورانس كونيرز من جامعة دنفر استياءه من فكرة أن التقنيات المستخدمة يمكنها اختراق أعماق تصل إلى 4000 قدم بدقة كافية لرسم خريطة مدينة تحت الأرض.
كما اعتبر عالم المصريات زاهي حواس، وزير الآثار المصري الأسبق، هذه الادعاءات "خاطئة بشكل كامل"، مؤكدًا أن أي اكتشاف حقيقي يتطلب نشرًا في مجلات علمية محكمة وليس مجرد تصريحات إعلامية.
لكن الرد الأكثر قوة جاء من الدكتورة سابين هوسنفيلدر، الفيزيائية الشهيرة التي تقدم محتوى علميًا على يوتيوب. في فيديو نُشر في 3 أبريل 2025، وشاهده أكثر من مليون مشاهد حسب موقع "لادبايبل"، وصفت هوسنفيلدر الدراسة بأنها تسجل "9 من 10 على مقياس التفاهات" الخاص بها، منتقدة اختيار الباحثين العشوائي للهياكل في بيانات التصوير دون معايير علمية واضحة.
الحجة العلمية: لماذا لا توجد مدينة؟
وقدمت هوسنفيلدر تحليلًا فيزيائيًا مفصلًا لدحض الادعاء. أولًا، أوضحت أن الموجات الزلزالية أو الكهرومغناطيسية المستخدمة في المسح الجيوفيزيائي تعتمد على اهتزازات يمكن قياسها، كما يحدث في دراسة غرف الماغما تحت البراكين باستخدام موجات بأطوال تتراوح بين 50 و100 متر. لكن تحت الأهرامات، لا تتناسب هذه الموجات مع الكشف عن تفاصيل معقدة مثل شوارع أو مبانٍ، وفقًا لما أوردته "لادبايبل". كما أشارت إلى أن الرادار المخترق للأرض غير قادر على الوصول إلى أعماق كبيرة بدقة كافية لتأكيد وجود مدينة.
ثانيًا، تناولت الجانب الهندسي، موضحة أن فكرة بناء الأهرامات -التي تزن ملايين الأطنان- فوق فراغات أو أعمدة تحت الأرض "غير منطقية"، لأن ذلك سيجعلها عرضة للانهيار. وأكدت أن استقرارها لمدة 4500 عام ينفي هذا الاحتمال تمامًا.
رد الباحثين: دفاع وتبرير
فيما رد الباحثون على الانتقادات في "ديلي ميل"، مؤكدين أن بياناتهم استندت إلى قياسات دقيقة تم تحليلها باستخدام خوارزميات متطورة. واقترحوا أن الهياكل المكتشفة قد تكون جزءًا من نظام مائي قديم أو مبانٍ دينية سابقة لعصر الأهرامات، لكنهم تمسكوا بتصورهم عن "مدينة شاسعة". ودعوا إلى إجراء المزيد من الأبحاث لتأكيد النتائج، رافضين اتهامات التضليل.
جدل مستمر: العلم مقابل التخمين
يبرز هذا النقاش الصراع الدائم بين التفسيرات العلمية والنظريات الخيالية. فبينما يرى البعض أن هذه الادعاءات قد تفتح آفاقًا جديدة لفهم الحضارة المصرية، يحذر آخرون من الترويج لأفكار غير مدعومة بأدلة قوية. هوسنفيلدر، على سبيل المثال، لم تنكر وجود تجاويف صغيرة تحت الأهرامات، لكنها رفضت فكرة المدينة كتضخيم غير مبرر.
ويبقى المشهد منقسمًا: المؤيدون يطالبون بتحقيقات إضافية، بينما يدعو المشككون إلى التمسك بالمنهج العلمي. وكما ذكرت "ديلي ميل"، فإن هذا الاكتشاف -إن صح- قد يعيد تشكيل فهمنا للتاريخ، لكنه يظل حتى اللحظة موضع تساؤل وخلاف.
وتظل أهرامات الجيزة شاهدة على عبقرية الإنسان القديم، ولا تحتاج إلى أساطير لتعزيز قيمتها. جهود علماء مثل سابين هوسنفيلدر تؤكد أهمية التحقق العلمي في مواجهة الادعاءات الكبيرة. ورغم استمرار الجدل، تشير الأدلة الحالية إلى أن ما تحت الأهرامات قد لا يتعدى تجاويف طبيعية أو بقايا بسيطة، بعيدًا عن فكرة مدينة سرية تنتظر الكشف عنها.
0 تعليق