المعروف أن الأشياء لا تنطق. وكذلك كل الأحياء عدا الإنسان. والنطق معناه استخدام الخطاب واللغة بطريقة ذكية. ومن هنا نطلق على الإنسان صفة "حيوان ناطق"، أي إن بإمكانه التفكير ومن ثم تحويل الفكر إلى نطق وممارسة.
إن قلت إن الأمر لم يعد هكذا، وإن الأشياء صارت تنطق أيضا، فلربما اتهمني البعض بأنني أبالغ أو أخذني مس من الخيال العلمي.
العالم يدخل وبقوة في عصر صارت فيه الأشياء تنطق كما ينطق الإنسان – ضع خط تحت (الأشياء)، لأن الإنسان يطوع الأشياء لهذا الغرض بالذات، وليس أيا من الأحياء الأخرى.
بمعنى آخر، إن ما كان يميز الإنسان عن غيره من الأشياء والمخلوقات لم يعد حكرا عليه – هنا نحن على أعتاب تغييرات جذرية في كوكبنا، إما أن تؤدي بنا إلى تهلكة أو ترفع من شأننا.
ومَلَكة بعض النطق الابتدائي لدى الأشياء حدثت لأول مرة في عام 1999 أي في السنة التي احتفل فيها العالم بنهاية الألفية الثانية ودخوله الألفية الثالثة.
في ذلك العام بالذات دخلنا عصر إنترنت الأشياء Internet of Things. ولا أظن أن الذي دشن وسّك مصطلح (إنترنت الأشياء)، وهو البريطاني كيفين أشتون، كان في خلده أنه لن يمضي عقدان، وإذا بالأشياء تأخذ في النطق وليس فقط كونها وسيلة تواصل.
كان أقصى ما يتطلع إليه كيفين أشتون هو ربط الأجهزة (الأشياء) وعلى الخصوص المنزلية منها مع أجهزة الاستشعار والبرامج الحاسوبية لتبادل البيانات وجمعها، ثم ربطها بالأدوات الحاسوبية المتطورة.
بيد أنه يبدو أن لا سقف لتطلعات الإنسان وطموحاته، وعلى الخصوص في سعيه الحثيث للتطور والتملك والسيطرة وتطويع الأشياء والكائنات لخدمته.
وهكذا صارت مجموعة البيانات التي تكدست لدى الحواسيب الصناعية المتطورة نتيجة ربط الأشياء ببعضها مصدرا لبث نوع من الحياة (نطق) فيها، وتحولت الأشياء الجامدة إلى كائنات لها من الذكاء ما يفوق كل الكائنات الأخرى عدا الإنسان، لا بل تبز الإنسان في بعض المظاهر.
ودخلنا عصرا جديدا وهو عصر البيانات الكبيرة Big Data التي يتم تطويعها بعد غربلتها خوارزميا لبث الحياة في الأشياء التي بإمكانها اليوم التحدث مع بعضها، واتخاذ قرارات قد تكون خطيرة للغاية كما هي الحال في الحروب التي نشهدها.
نحن في عصر الصناعة الذكية، التي فيها لم يعد الذكاء حكرا على الإنسان. هنا لا يجوز أبدا التقليل من شأن الذكاء الذي منّ الله به على الإنسان، الذي يمنحه المقدرة ليس على التفكير فحسب، بل على الفرز والتمييز.
لكن عصر الصناعة الذكية يختلف جوهريا عن عصر الصناعة التقليدية التي أبهرتنا. إن ما تجتره لنا الصناعة الذكية لا يبهرنا فحسب، بل قد يعرضنا لصعقة أشد وقعا من الصعقة الكهربائية.
لا تعمل الصناعة التقليدية دون مواد أولية مثل الصلب والخشب والوقود، التي يحصل عليها الصناعيون الكبار مقابل أثمان. الصناعة الذكية تختلف لأنها تحصل على مواردها الأولية تقريبا مجانا.
لا تدفع الولايات المتحدة وشركات الذكاء الاصطناعي العملاقة التي لديها عن المعلومات التي تكدسها (موادها الأولية). المستهلك هو الذي يقدم هذه المواد طوعا ومجانا، ومن ثم الأجهزة الذكية ذاتها قد تجمعها دون علم منا.
والذكاء بخوارزمياته الخارقة يحول المعلومات إلى منتج صناعي ذكي، أي إن الأشياء التي يصنعها تكتسب من الذكاء ما يجعلها قادرة مثلا على التعرف على أي شخص في الدنيا وبيسر، ومن ثم توجيه تهنئة له عبر رسالة نصية أو صاروخ ذكي للانتقام منه.
دخل الإنسان عصرا فيه يعيش سواسية ليس فقط مع كائنات حية أخرى، بل كائنات مادية تفكر وتنطق وتستشعر، وهي في طريقها إلى منافسة الإنسان في المَلَكة التي كانت حكرا عليه طوال التاريخ، ألا وهي كونه حيوانا ناطقا.
تمخض جبل الذكاء الخوارزمي فولد لنا كائنات مادية ناطقة. ماذا يخبئ لنا المستقبل، والله لست أدري.
0 تعليق