وصل العالم، اليوم، إلى ذروة التقدم التقني الهائل غير المسبوق، والذي انعكس على كل مناحي الحياة الإنسانية التي تعيش زمن التغيير الكبير؛ فالذكاء الاصطناعي برز كتقنية علمية لتعويض بعض المهام المتكررة والروتينية، كأهم خاصية للتحولات الرقمية المتسارعة التي يشهدها العالم في السنوات الأخيرة، معيدة رسم ملامح المجتمعات والعلاقات الإنسانية بشكل غير مسبوق غيرت تماما مفهوم الزمان والمكان، لما له من أهمية بالغة على سوق العمل.
فمن الذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات، ومن البيانات الضخمة إلى الخوارزميات، يجد الإنسان كمبدع لهذا التحول الرقمي نفسه سجين ما أنتجه؛ لأن الحياة تبدو وكأنها تنزلق تدريجيا نحو عالم جديد تحكمه الآلات والتقنيات الذكية، الشيء الذي يطرح أسئلة عميقة من قبيل: ما انعكاسات هذا التحول على المستوى الاجتماعي والقيمي؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن مهن ستبقى صامدة وأخرى ستندثر؟ وإلى أي حد يمكن التفكير في المخاطر الحقيقية التي قد تهدد الوجود الإنساني نفسه؟ وإذا كان هذا التحول الرقمي سيؤدي إلى اختفاء بعض الوظائف فهل سيخلق وظائف جديدة وفرصا مهنية جديدة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة المؤرقة، قال أنس أبوالكلام، رئيس شعبة الدفاع السيبراني بجامعة القاضي عياض، إنه “لا يمكن إنكار أن الرقمنة، أسرع ثورة في تاريخ الإنسانية، أدخلت الإنسان في زمن جديد عنوانه الأكبر هو السرعة والافتراضية والاعتماد المتزايد على الآلة. فإذا كانت الثورة الصناعية قد عوضت نسبيا عضلات الإنسان بالآلات، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي أضحت تعوض تدريجيا عقل الإنسان بالروبوتات والتطبيقات الذكية؛ بل أصبحت تنعكس بشكل مباشر على العديد من القيم الاجتماعية التي كانت إلى وقت قريب تعتبر من الثوابت مثل التواصل الإنساني المباشر، والتضامن الاجتماعي، وحتى مفهوم الخصوصية”.
وأضاف أبوالكلام، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إن “الذكاء الاصطناعي لم يعد، اليوم، قادرا على تطوير قدرات التفكير المنطقي واتخاذ القرارات البسيطة؛ بل قادرا أيضا على التعامل مع بيانات جديدة وربطها بالتجارب السابقة”، مبرزا أن “الكثيرين يخشون من وصوله إلى مراحل يفوق فيها قدرات الإنسان في جميع المجالات: كالإبداع، والتحليل، والمشاعر وحتى الحكمة، دون الحديث عن احتمالية وصول الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة يتمتع فيها بوعي ذاتي حقيقي، يفهم فيه وجوده ويفكر في قراراته ومصيره؛ ما قد يشكل مخاطر كبرى على البشرية إذا لم تتم السيطرة عليه”.
وزاد المتحدث ذاته: “إذا اقتصرنا على واقع حالنا اليوم قبل الغد، فالأكيد أن العلاقات الاجتماعية أصبحت أكثر هشاشة وسطحية، حيث حلت الشاشات مكان اللقاءات، وتحولت مشاعرنا إلى “إيموجي” ورسائل نصية، بينما تراجعت قيم الحوار والصبر والتواصل الإنساني العميق. كما أدى تزايد الاعتماد على الخوارزميات في تشكيل الرأي العام وتوجيه السلوك الاستهلاكي إلى تفكيك مفهوم الاستقلالية والحرية الفردية، حيث باتت المعلومة تفصل لكل شخص على مقاسه دون وعي منه، وفق ما تراه الآلة مناسبا له. في المقابل، فتحت الرقمنة آفاقًا واسعة لتعزيز قيم أخرى مثل الابتكار، والوصول إلى المعرفة، وتحقيق العدالة الرقمية؛ لكن بشرط أن يُرافق هذا التحول وعي جماعي بضرورة التحكم فيه وعدم الوقوع في فخ فقدان الإنسان لمركزية وجوده كفاعل وليس كمتلقٍّ فقط”.
وبخصوص إشكالية المهن بين الانقراض والمقاومة في عصر الذكاء الاصطناعي، أوضح رئيس شعبة الدفاع السيبراني بجامعة القاضي عياض أن “العديد من الدراسات العلمية الجادة تؤكد أن كثيرا من الوظائف القائمة حاليا ستختفي في المستقبل، والأكيد هو أننا سنشهد في العشرية المقبلة فقدان العديد من الوظائف بسبب استخدام التكنولوجيا بشكل كبير، حيث ستحل الآلات محلها، إذ تقول بعض الإحصائيات إن 80 في المائة من الوظائف ستتأثر بالذكاء الاصطناعي وإن 50 في المائة من المهام المنجزة سيوفرها الذكاء الاصطناعي الذي سيساهم بشكل مباشر في إيجاد وظائف جديدة، فثلث الوظائف الجديدة التي نشأت في الولايات المتحدة في الخمس والعشرين سنة الماضية لم تكن موجودة من قبل؛ كتطوير تكنولوجيا المعلومات، وتصنيع الأجهزة، وإنشاء التطبيقات، وإدارة نُظم تكنولوجيا المعلومات”.
وتابع: “من المهن التي باتت مهددة بالانقراض مهن المحاسبة التقليدية التي أصبحت الخوارزميات قادرة على تنفيذها بدقة وسرعة تفوق الإنسان، ووظائف خدمة الزبناء والسكرتارية والترجمة التي بدأت تحل محلها تطبيقات الدردشة الآلية والروبوتات الصوتية، والصحافة التقليدية والمونتاج والإنتاج الإعلامي البسيط الذي صار الذكاء الاصطناعي قادرًا على القيام به بسرعة وبتكلفة أقل، ومهن النقل والسائقين مع تطور السيارات ذاتية القيادة. في المقابل، ستقاوم مهن أخرى لسنوات طويلة مقبلة، خاصة تلك التي تتطلب قدرات إنسانية معقدة لا يمكن للآلة محاكاتها بسهولة؛ مثل: المهن الطبية والجراحية الدقيقة حيث يلعب القرار الإنساني دورًا حاسمًا، والتعليم والتربية التي تعتمد على بناء الإنسان والقيم والتفاعل البشري والمجالات الإبداعية والفنية والرعاية الصحية”.
وفي هذا الصدد، لفت إلى أنه “على الرغم دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، فإن الإبداع الإنساني سيظل عصيًّا على التقليد الكامل، والمجالات المرتبطة بالتحليل الاستراتيجي والتفاوض والسياسة التي تتطلب مهارات عاطفية وإنسانية عالية”.
وعن إمكانية أن تتحول الروبوتات إلى خطر يهدد الحياة الإنسانية، فواقع الحال، أكد أبو الكلام، “أن الذكاء الاصطناعي يتطور بوتيرة متسارعة، واقترابه شيئا فشيئا من قدرات الإنسان على التعلم والاستنتاج واتخاذ القرار يجعل هذا الخطر واقعيا أكثر من أي وقت مضى؛ فعندما نصل إلى مرحلة تصبح فيها الآلات قادرة على اتخاذ قرارات دون تدخل بشري، أو تطوير نفسها بنفسها، نكون قد دخلنا فعلاً مرحلة “الذكاء الاصطناعي الفائق”، وهي المرحلة التي يعتبرها كبار العلماء مثل ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك بمثابة التهديد الأكبر للبشرية، ويكفي مثالا لذلك التطور الحاصل في الروبوتات العسكرية والطائرات بدون طيار وأنظمة المراقبة الذكية لندرك أن خطر فقدان السيطرة على هذه الأدوات قد يتحول إلى واقع إذا لم يتم تحصينه بأطر أخلاقية وقانونية صارمة”.
وفي جواب لجريدة هسبريس الإلكترونية عن سؤال حول الفرص والمخاطر وهل سيحافظ الإنسان على مركزية وجوده، أوضح رئيس شعبة الدفاع السيبرياني بجامعة القاضي عياض قائلا: “يحمل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي فرصا هائلة لتطوير الإنسان والمجتمع؛ لكنه في المقابل يفرض تحديات عميقة قد تهدد القيم والوظائف وحتى الوجود الإنساني نفسه، ومن بين المشاكل والتحديات الرئيسية التي لا يمكن التغاضي عليها إمكانية تجاوز رفاهية البشر بطريقة تجعل البشر كسالى وغير قادرين على التفكير أو اتخاذ القرارات بشكل مستقل عن الآلة، وانعدام الشفافية والإضرار بالخصوصية، إذ يعتمد الذكاء الاصطناعي بالأساس على تحليل كمية هائلة من البيانات الضخمة بما فيها المعطيات ذات الطابع الشخصي. وتتوقع مؤسسة البيانات الدولية أن ينمو مجال البيانات العالمي من 33 تريليون غيغابايت في عام 2018 إلى 175 تريليون غيغابايت بحلول عام 2025، وهذه الكميات الهائلة من البيانات تجعل احترام الخصوصية الشخصية أكثر صعوبة في ظل انتشار الذكاء الاصطناعي”.
ختم أبوالكلام: “أما الرهان الحقيقي، اليوم، فهو كيف يمكن صناعة مستقبل رقمي عادل ومتوازن يحفظ للإنسان مكانته كغاية وليس مجرد وسيلة أو رقم داخل خوارزمية، مستقبل يكون فيه الذكاء الاصطناعي خادما ومساعدا للإنسان لا سيدًا عليه. كما يجب تطوير سياسات وأطر تنظيمية لضمان استخدام التكنولوجيا بشكل مسؤول، وتحديد مسؤولية المؤسسات عن استخدام هذه التقنية بشكل صحيح؛ ما يستوجب إحداث إطار قانوني خاص ومراعاة الجانب الأخلاقي في استخدام الذكاء الاصطناعي، وتشجيع المطورين على تصميم التطبيقات بطرق تحافظ على حقوق الأفراد وتحد من المخاطر المحتملة للتطبيقات السلبية؛ فعلى الرغم من أن الآلات يمكن أن تمتثل للقانون تماما، فإنه لا يوجد ما يضمن أن هذا الذكاء سيكون عقلانيا أو يراعي الجانب الأخلاقي عند اتخاذه للقرارات المهمة.. وكل هذه المخاطر والتحديات تفرض علينا يقظة جماعية واستباقية تشارك فيها الدول والحكومات والعلماء والمجتمع المدني، قبل أن نستيقظ يوما ونكتشف أن الآلة لم تعد مجرد مساعد لنا؛ بل أصبحت المتحكم الوحيد في مصائرنا وحياتنا”.
0 تعليق