في لحظة فارقة في تاريخ مصر المعاصر، حمل الرئيس عبد الفتاح السيسي رؤيته لمستقبل الوطن، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء والتطور تحت شعار "الجمهورية الجديدة"، ولم يكن هذا القرار مجرد حلم طموح، بل استجابة لمجموعة من التحديات التي واجهتها البلاد على كافة الأصعدة.
ومن قلب التحديات الاقتصادية إلى استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي، كان لا بد من رؤية استراتيجية تعيد بناء الأمل وتضمن مستقبلاً مشرقاً، ولكن، ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الرئيس السيسي لاتخاذ هذا القرار الكبير؟ وكيف يمكن تفسير رؤيته لبناء دولة جديدة قادرة على مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية المستدامة؟.
وفي هذا التقرير، من بانكير، نغوص في التفاصيل التي شكلت معالم هذا القرار، وما تحمله "الجمهورية الجديدة" من وعود وآفاق لمستقبل مصر.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية
وبعد سنوات من الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أعقبت ثورتي 25 يناير و30 يونيو، أصبحت مصر بحاجة ماسة إلى استعادة الاستقرار وبناء دولة حديثة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وأدرك الرئيس السيسي أن ترسيخ مفهوم "الجمهورية الجديدة" يتطلب تعزيز دور المؤسسات الوطنية، وتطبيق إصلاحات سياسية وأمنية، وإرساء قواعد حكم تعتمد على سيادة القانون والتخطيط طويل المدى.
وقد كان تحقيق الاستقرار شرطًا أساسيًا لتمكين الدولة من تنفيذ مشاريع تنموية كبرى وجذب الاستثمارات الخارجية، مما يساهم في خلق فرص عمل وتحقيق النمو المستدام.
وجاءت "الجمهورية الجديدة" كمفهوم يعكس تحول الدولة من الاعتماد على سياسات قصيرة الأجل إلى تنفيذ خطط إصلاح اقتصادي شاملة، أبرزها برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في 2016، وشمل تحرير سعر الصرف، تقليل عجز الموازنة، وتحفيز القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة.
كما أطلق الرئيس السيسي مشاريع قومية كبرى في البنية التحتية، الطاقة، والإسكان، لضمان تحقيق التنمية المستدامة ورفع مستوى معيشة المواطنين.
ورغم صعوبة برنامج الإصلاح الاقتصادي، إلا أنه يؤتي ثماره ويمكن ملاحظة ذلك في القضاء على السوق السوداء للعملة الصعبة، وهيكلة الدعم ليصل إلى مستحقيه والعمل على السيطرة على عجز الموازنة ومكافحة التضخم، بالإضافة إلى رفع الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة لمستويات غير مسبوقة، وصلت لـ 47.109 مليار دولار أمريكي في نهاية ديسمبر 2024.
ويعد هذا المستوى هو الأعلى للاحتياطي النقدي في تاريخ مصر، مما يعكس تحسنًا ملحوظًا في الأوضاع المالية والاقتصادية للبلاد.
مواجهة التحديات السكانية وتحسين جودة الحياة
وتزايد عدد السكان بشكل سريع كان من أبرز التحديات التي واجهتها الدولة، إذ أدى إلى الضغط على الخدمات العامة مثل الصحة، التعليم، والنقل، ومن هنا، تبنى الرئيس السيسي رؤية "الجمهورية الجديدة" كإطار شامل لإعادة توزيع التنمية، من خلال إنشاء مدن جديدة مثل العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، وتطوير العشوائيات، وتحسين شبكات النقل.
كما أطلقت الحكومة مبادرات اجتماعية مثل "حياة كريمة" لتطوير القرى الأكثر احتياجًا، مما يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حياة كريمة لجميع المواطنين.
تعزيز الاستقرار السياسي والأمني
وبعد فترة من الاضطرابات السياسية، كان من الضروري استعادة الاستقرار لضمان بيئة آمنة للتنمية، وعملت الدولة على تعزيز المؤسسات الوطنية، وتطوير البنية التشريعية، ودعم سيادة القانون.
كما تم تعزيز قدرات القوات المسلحة جعلتها واحد من أكبر الجيوش في العالم، بالإضافة لتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، مما أسهم في تحقيق الاستقرار المطلوب.
تطوير البنية التحتية والمشروعات القومية
وأطلقت مصر سلسلة من المشروعات القومية الكبرى بهدف تحديث البنية التحتية ودفع عجلة التنمية، ومن أبرز هذه المشروعات:
- العاصمة الإدارية الجديدة: مشروع طموح يهدف إلى إنشاء مدينة ذكية حديثة تستوعب النمو السكاني وتخفف الضغط عن القاهرة، وتضم العاصمة الجديدة مقرات حكومية، ومناطق سكنية، ومراكز تجارية، ومرافق ترفيهية.
- مشروع "مستقبل مصر" للإنتاج الزراعي: يهدف إلى زيادة الرقعة الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي من خلال استصلاح الأراضي وزيادة الإنتاجية الزراعية.
- تطوير شبكة الطرق والكباري: تم تنفيذ العديد من المشروعات لتطوير وتوسيع شبكة الطرق والكباري بهدف تحسين حركة النقل وتسهيل التجارة الداخلية والخارجية.
تمكين الشباب وبناء الإنسان المصري
وإيمانًا بأن الشباب هم عماد المستقبل، أطلقت الدولة مبادرات لتمكينهم وتأهيلهم للقيادة، حيث تم إنشاء "اتحاد شباب الجمهورية الجديدة" لتفعيل دور الشباب في المجتمع وتعزيز مشاركتهم في صنع القرار، كما تم التركيز على تطوير التعليم والبحث العلمي، وإطلاق برامج تدريبية لتأهيل الشباب لسوق العمل.
وإحدى الركائز الأساسية للجمهورية الجديدة كانت إعادة بناء الإنسان المصري عبر تطوير نظام التعليم وربطه بمتطلبات سوق العمل الحديثة، حيث أدرك الرئيس السيسي أن التعليم التقليدي لم يعد كافيًا لمواكبة التغيرات السريعة في الاقتصاد العالمي، لذا تم تنفيذ إصلاحات جذرية في المناهج، وتعزيز التعليم الفني والتكنولوجي، وإطلاق الجامعات التكنولوجية الجديدة التي تواكب احتياجات الثورة الصناعية الرابعة.
كما شملت هذه الجهود برامج الابتعاث للخارج، والشراكات مع الجامعات الدولية، إضافة إلى دعم البحث العلمي والابتكار كأدوات رئيسية للنهوض بالمجتمع.
ولم يقتصر تمكين الشباب على الجانب الاقتصادي فقط، بل امتد إلى مشاركتهم الفاعلة في العمل السياسي والإداري، حيث عملت الدولة على تأهيل جيل جديد من القادة عبر إطلاق الأكاديمية الوطنية للتدريب، التي قدمت برامج مكثفة لصقل مهارات الشباب في الإدارة والقيادة.
كما تم تمكينهم من خلال تعيينهم في مناصب قيادية داخل الحكومة، وإشراكهم في المجالس النيابية والمحلية، مما جعل صوتهم أكثر تأثيرًا في صنع القرار، وبالإضافة إلى ذلك، حرصت الدولة على تنظيم مؤتمرات مثل "منتدى شباب العالم"، الذي أصبح منصة عالمية تتيح للشباب مناقشة القضايا الدولية والمشاركة في رسم السياسات المستقبلية.
وإدراكًا لأهمية الصحة كعنصر أساسي في بناء الإنسان المصري، نفذت الدولة عدة إصلاحات في القطاع الصحي، من بينها مشروع التأمين الصحي الشامل، الذي يهدف إلى تقديم رعاية طبية متكاملة لجميع المواطنين.
كما أطلقت مبادرات صحية كبرى، مثل "100 مليون صحة" للكشف المبكر عن الأمراض المزمنة، و"مبادرة القضاء على فيروس سي"، التي جعلت مصر نموذجًا عالميًا في مكافحة الفيروسات الكبدية، وهذه الجهود ساهمت في تحسين جودة الحياة ورفع متوسط العمر المتوقع للمصريين، مما ينعكس إيجابيًا على الإنتاجية والتنمية البشرية.
وبالإضافة إلى ذلك، أطلقت الدولة مبادرة "حياة كريمة" لتحسين جودة الحياة في القرى والمناطق النائية، من خلال تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية، مما يسهم في بناء الإنسان المصري وتعزيز الانتماء الوطني.
التحول الرقمي وتعزيز التكنولوجيا
ومن أهم ملامح "الجمهورية الجديدة" كان التركيز على التحول الرقمي كأداة رئيسية لتحسين كفاءة الحكومة والخدمات العامة، حيث أدرك الرئيس السيسي أن استخدام التكنولوجيا يمكن أن يسهم بشكل كبير في تسهيل حياة المواطنين، وتقليل البيروقراطية، وتحقيق الشفافية.
ولذا تم إطلاق العديد من المبادرات الرقمية التي تهدف إلى رقمنة الخدمات الحكومية، ومن أبرز هذه المبادرات كان مشروع "التطوير المؤسسي للحكومة المصرية"، الذي يهدف إلى تحديث نظم العمل الحكومية من خلال استخدام البرمجيات الحديثة.
وكما تم إطلاق "بوابة مصر الرقمية"، التي تتيح للمواطنين الوصول إلى العديد من الخدمات الحكومية عبر الإنترنت، مما يسهم في توفير الوقت والجهد وتقليل الفساد الإداري، وفي إطار هذه الرؤية، تم أيضاً تحديث سجل الأراضي والعقارات بشكل رقمي، وتطوير سجل الأحوال المدنية، وهو ما ساعد على تسريع الإجراءات وتيسير وصول المواطنين إلى خدماتهم.
واستمرارًا في تعزيز التحول الرقمي، تبنت الدولة المصرية سياسة تكنولوجية قوية لتحفيز النمو الصناعي والاقتصادي، عبر تطبيق تكنولوجيا متقدمة في القطاعات الصناعية، فتم تنفيذ مشروعات صناعية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والإنترنت من الأشياء (IoT) في عدة مجالات، من بينها الصناعة المصرية، وتطوير الطاقة المتجددة، والاتصالات.
وكانت المدن الصناعية الجديدة جزءًا من استراتيجية التحول الرقمي، إذ تم تجهيز العديد من المصانع بالبنية التحتية اللازمة لدعم هذه التكنولوجيات الحديثة.
كما بدأت الحكومة المصرية في تعزيز استخدام تقنيات مثل البيانات الضخمة (Big Data) والذكاء الاصطناعي في المجالات الاقتصادية المختلفة، مثل الزراعة، من خلال تقديم حلول رقمية لزيادة الإنتاجية وتحسين إدارة الموارد المائية.
ووفي القطاع المالي، طورت المنصات الرقمية لتيسير الخدمات المصرفية، بما في ذلك الدفع الإلكتروني والتحويلات البنكية عبر الإنترنت، وتعزيز سياسة الشمول المالي.
وفي إطار استراتيجية التحول الرقمي، تركزت جهود الدولة على تطوير مدن ذكية تكون نموذجا رائدًا للتنمية المستدامة في العالم، وواحدة من أبرز هذه المدن هي "العاصمة الإدارية الجديدة"، التي تم تصميمها لتكون مدينة رقمية تعتمد بشكل كامل على أحدث الأنظمة التكنولوجية في إدارة الخدمات مثل النقل، الكهرباء، والاتصالات.
كما أن العاصمة الإدارية الجديدة تتضمن شبكة من الخدمات الرقمية التي تتيح للمواطنين الوصول إلى معظم احتياجاتهم الحكومية عبر منصات إلكترونية، ما يعزز من فعالية الخدمات العامة ويزيد من كفاءة الأعمال.
وتعزيز الابتكار في قطاع التكنولوجيا كان جزءًا لا يتجزأ من "الجمهورية الجديدة"، حيث أولت الحكومة اهتمامًا كبيرًا لدعم البحث العلمي والتطوير في مختلف المجالات التكنولوجية، وتم إنشاء العديد من مراكز الابتكار والمعامل البحثية التي تركز على مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا المعلومات.
وقد تم تعزيز هذا الدعم من خلال التعاون مع شركات عالمية ومعاهد بحثية مرموقة، وذلك بهدف تحويل مصر إلى مركز إقليمي للابتكار التكنولوجي.
وقرار الرئيس السيسي ببناء "الجمهورية الجديدة" جاء استجابة لتحديات متعددة ورؤية طموحة لمستقبل مصر، ومن خلال التركيز على الإصلاح الاقتصادي، وتعزيز الاستقرار السياسي، وتطوير البنية التحتية، وتمكين الشباب، والتحول الرقمي، تسعى مصر إلى تحقيق نهضة شاملة تضعها في مصاف الدول المتقدمة.
0 تعليق