استنفر اقتراب شهر رمضان، الذي يمثل ذروة الاستهلاك، الأسر المغربية، التي أصبحت تستشرف ارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال هذه المناسبة الدينية، إلا أنه مع تشدد البنوك وانخفاض جاري القروض الموزعة من قبلها، بسبب تنامي مستوى القروض معلقة الأداء، لجأت عدد من الأسر إلى حلول تمويلية تقليدية وبديلة من قبيل “دارت”، وكذا إلى جمعيات القروض الصغرى، لغاية الحصول على تمويلات كافية تغطي تكاليف الاستهلاك خلال الشهر الفضيل، وتعزز قدرتها المالية في مواجهة مناسبات استهلاكية متقاربة، على رأسها عيد الأضحى.
وبلغة الأرقام، رسخت المعطيات الواردة من بنك المغرب تزايد لجوء الأسر إلى الاقتراض، حيث استفادت من قروض بقيمة 381.9 مليار درهم بنهاية السنة الماضية، أي بزيادة نسبتها 1.7 في المائة، منها 58.2 مليار درهم عبارة عن قروض استهلاكية، بارتفاع نسبته 1.4 في المائة خلال الفترة ذاتها، فيما بلغت قيمة القروض معلقة الأداء 56.8 مليار درهم (زائد 0.1 في المائة).
ورغم مواصلة التضخم منحاه التراجعي، حيث استقر عند 0.9 في المائة بنهاية السنة الماضية، واصلت نفقات الأسر واستهلاكها مسار الارتفاع، فيما أظهرت الإحصائيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط أن نسبة الأسر التي تتوقع قدرتها على الادخار خلال السنة المقبلة لا تتجاوز 11.1 في المائة، في مقابل 88.9 في المائة صرحت بعجزها عن الادخار خلال الفصل الرابع من السنة الماضية.
ثقافة الاقتراض التضامني
تعتبر “دارت” نوعا من الاقتراض التضامني الشعبي في المغرب، حيث يتم تنظيمها بين مجموعة من الأشخاص لتجنب الفوائد البنكية. ويتم تحديد ترتيب المستفيدين من خلال الاقتراع، ويمكن تخصيصها للأشخاص في حالات طارئة ومناسبات استهلاكية خاصة، مثل شهر رمضان، فيما تختلف قيمتها ووتيرتها حسب الدخل الشهري والاتفاق الجماعي بين الأعضاء. وقد أصبح هذا البديل التمويلي ثقافة متجذرة في المجتمع، يساعد في تسديد التكاليف، مثل شراء منزل أو سيارة دون الحاجة للاقتراض من البنوك.
وأوضح محمد كريم القادري، مستشار بنكي خبير في الهندسة المالية، في تصريح لهسبريس، أن “دراسات متعددة في مجال الاقتصاد الاجتماعي تشير إلى أن الاقتراض التضامني، الذي يعرف محليا في المغرب بـ (دارت)، يعد من أبرز وأهم الأشكال البديلة للتمويل التي تساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية والتعاون بين الأفراد في المجتمع. هذه الآلية التمويلية، التي يتزايد اللجوء إليها مع اقتراب مناسبة استهلاكية مهمة مثل شهر رمضان، تعتمد على المساهمة الجماعية، حيث يتفق مجموعة من الأشخاص على جمع مبالغ مالية بشكل دوري، ثم يتم تخصيص هذه المبالغ لصالح أحد الأعضاء في كل دورة. يتم تحديد المستفيد من خلال آلية شفافة مثل الاقتراع، مما يضمن العدالة ويعزز الثقة بين الأعضاء”.
وأضاف القادري أن “من أبرز مزايا هذا النوع من الاقتراض، مساهمته في توفير تمويل للأشخاص دون الحاجة للاستدانة من المؤسسات المالية التقليدية التي تفرض فوائد مرتفعة قد تكون غير متاحة لفئات معينة من المجتمع. وإن هذا النظام يتيح للأفراد، خاصة في الطبقات المتوسطة والدنيا، الحصول على قروض لتغطية احتياجات استهلاكية كبيرة، مثل شراء منزل أو سيارة، دون تحمل عبء الديون البنكية. كما أنه يمثل حلاً فعالًا للتعامل مع الطوارئ المالية، مثل تكاليف العلاج أو المناسبات الاجتماعية مثل شهر رمضان، حيث تزداد الحاجة للتمويل بسبب الارتفاع المفاجئ في الإنفاق”.
وضعية مالية ملتبسة
ويطرح ارتفاع مستوى الإنفاق لدى الأسر المغربية، رغم تباطؤ التضخم وارتفاع كلفة الاقتراض، تساؤلات حول مصادر تمويل هذا الاستهلاك. ويعزى جزء كبير من هذه الظاهرة إلى زيادة تداول “الكاش”، الذي ارتفع بنسبة 130% في عشر سنوات ليتجاوز 400 مليار درهم، ما يعقد متابعة الوضع المالي للأسر ويعزز سوق المعاملات غير الرسمية. ويظهر هذا الوضع ضعف بنية الاقتصاد الوطني، خصوصا مع استمرار نمو اقتصاد الظل الذي يعيق الإصلاحات البنيوية. كما يشير إلى تناقض بين ارتفاع الاستهلاك وتفاقم التكاليف المالية للأسر.
وأفاد رشيد قصور، خبير اقتصادي، بأن الوضع المالي للأسر المغربية يثير القلق في ظل الانخفاض التدريجي للتضخم وارتفاع تكاليف الاقتراض، موضحا أنه “في وقت يشهد فيه الاقتصاد تباطؤاً نسبيا في التضخم، نجد أن هناك ارتفاعا كبيرا في مستوى الاستهلاك لدى الأسر. هذا الظرف يطرح تساؤلات مشروعة حول كيفية تمويل هذا الاستهلاك، لا سيما على ضوء الزيادة الملحوظة في تداول الأوراق النقدية”، مشددا على أن الزيادة في حجم “الكاش” تؤكد تفشي التعاملات غير الرسمية التي تساهم في تعزيز اقتصاد الظل، وهو ما يعقد القدرة على متابعة الوضع المالي للأسر بشكل دقيق. كما يعكس هذا الوضع ضعفا في بنية الاقتصاد الوطني ويعزز المخاوف من استمرار نمو غير منظم يعيق تنفيذ الإصلاحات البنيوية المطلوبة.
وتابع قصور، في تصريح لهسبريس، بأن “من بين الأسباب الرئيسية لتفاقم تداول الكاش في المغرب، نجد ضعف الشمول المالي، حيث ما يزال العديد من المواطنين غير مندمجين في النظام البنكي وغير مستفيدين من خدماته. كما يعتبر الاحتفاظ بالنقد كوسيلة لتخزين القيمة دافعا آخر، حيث يفضل البعض الاحتفاظ بالنقد كضمان للمستقبل أو لإجراء المعاملات التجارية. هذه العوامل تساهم في زيادة حجم الأوراق النقدية المتداولة، مما يضعف قدرة الدولة على تتبع التدفقات المالية ويعزز الاقتصاد غير المهيكل”، مؤكدا ضرورة اتخاذ إجراءات فعالة للتخفيف من الاعتماد الكبير على النقد، مثل تعزيز الرقمنة وتسهيل عمليات الدفع عبر الوسائل الإلكترونية.
0 تعليق