واقع تقييم أثر التشريعات في المملكة 

مال 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يمكن فصل القطاع التشريعي عن مسيرة التنمية المستقبلية، إذ يُعدّ وجود منظومة تشريعية متكاملة ضرورة أساسية لوضع الأسس الفكرية والأهداف التي توجه عمليات التخطيط والتنفيذ. إن تقييم أثر التشريعات لا يقتصر على دعم التنمية، بل يُشكّل أحد متطلباتها الجوهرية. فالعمل على تحقيق تنمية مستدامة يستدعي فهماً عميقاً للتجربة التشريعية السابقة، وتحليلاً دقيقاً للتشريعات المطبقة، إلى جانب مراجعة التعديلات المتلاحقة عليها، لضمان تحقيق الأهداف التشريعية بأقصى درجات الفاعلية وفي أقصر إطار زمني ممكن.

في المملكة، لا تكمن المشكلة في النية لبدء التطبيق الفعلي الخاص بتقييم أثر التشريعات؛ حيث إن مجلس الوزراء قد أصدر العديد من القرارات الهادفة لتنظيم عملية إصدار التشريعات وتعزيز جودة صياغتها بما يكفل الوصول لأعلى مستوى تنظيمي ممكن، وأكثره نجاعة في حل الإشكاليات التي ينظمها. وأهم هذه القرارات كانت هي: قرارات مجلس الوزراء رقم (713) والذي نص على أبعاد تقييم الأثر التشريعي القبلي المالي والاقتصادي والوظيفي، وقرار مجلس الوزراء رقم (476) والذي نص على من مسؤوليات المركز الوطني للتنافسية إعداد نماذج الاستطلاع، وتقويم الآثار، وتعميمها على الجهات الحكومية، وقرار مجلس الوزراء رقم (200) والذي أضاف لتقييم الأثر التشريعي القبلي البعد الاجتماعي والبعد الصحي. لكن بالمقابل، المشكلة الواقعية كانت مزدوجة على وجهَيْ: النقص والقصور، كما يلي:

(1) فمن ناحية النقص؛ يمكن القول بأن قرارات مجلس الوزراء كانت على صعيد التقييم “القبلي/السابق” لإصدار التشريعات. والقصور هنا يكمن في عدم وجود تقييم لأثر التشريع اللاحق لإصداره، وهي العملية التي تظهر عيوب التشريع بعد تطبيقه، وهي من أكثر العمليات جوهرية في تحديد الخطوات التشريعية المطلوبة مستقبلا لتحقيق التنمية.

(2) ومن ناحية القصور؛ يمكن اختصار نقاط القصور في قياس أثر التشريعات بالمملكة بأنه رغم الجهود المبذولة لقياس أثر التشريعات في المملكة، لا تزال العديد من الجهات الحكومية تواجه تحديات في امتلاك القدرات الإداراية والفنية الكافية لإعداد دراسات تقييم الأثر التشريعي بجودة عالية. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، من بينها محدودية الكوادر المؤهلة، وضعف استخدام الأدوات المنهجية الحديثة في تحليل الأثر، وغياب التنسيق الفعّال بين الجهات المعنية. كما أن بعض الجهات تفتقر إلى البيانات الدقيقة والآليات المناسبة لمتابعة تنفيذ التشريعات وتقييم آثارها بشكل مستمر. وبالتالي، فإن تعزيز القدرات المؤسسية، وتطوير منهجيات تقييم متكاملة، واعتماد معايير واضحة لقياس الأثر، يعدّ ضرورة لضمان تحسين جودة التشريعات وتعزيز كفاءتها في تحقيق الأهداف المرجوة.

هذا الواقع بحاجة إلى إعادة نظر في طريقة تقييم أثر التشريع، ليس من باب سد النقص في البيئة التشريعية فقط، بل أيضا من منظور إعادة رسم ثقافة جديدة أكثر عمقا وتخصصا حول تقييم أثر التشريعات.

خارطة الطريق لقياس أثر التشريعات السابق واللاحق
أولاً: التقييم “السابق” لإصدار التشريع: ويتم العمل فيه على أمرين مهمين:
(1) دراسة نظرية لجدوى التدخل التشريعي؛ بحيث يتم قياس الحاجة الفعلية القائمة للتشريع، ثم الأثر العملي المتوقع له. وعلى سبيل المثال، إذا كان المنظم بصدد إصدار قانون لتأسيس سوق مالية جديدة؛ فإلى جانب دراسة الجدوى المالية والاقتصادية، يكون على المنظم تقديم دراسة جدوى قانونية؛ بمعنى الإجابة عن تساؤل محدد، هو: ما حجم الفائدة التنظيمية من إنشاء سوق مالية جديدة؟ أي ما هو مقدار الفائدة التي ستجنيها الدولة من إنشاء هذه السوق على جميع الأصعدة؟ وكيف يمكن أن يتم تنظيمها بأفضل صورة وبأعلى درجات الحوكمة؟
(2) دراسة مقارنة استقرائية لاستنتاج جدوى التدخل التشريعي؛ تقوم بتفعيل نتائج الدراسة السابقة على شكل عملية موازنة للفوائد والمخاطر. أي يجب أن تحتوي الدراسة التشريعية على صورة السوق المثالية وفق العقلية التنظيمية التي ستحكمها، ومقدار الفائدة التي سيجنيها الاقتصاد الوطني، ومدى قدرة السلطة على ضبط هذه السوق وتحديد قواعدها الملزمة ومعايير حوكمتها بالصورة المثالية. وبعدها يكون “الاستقراء” بغرض الوصول إلى نتيجة واحدة من جميع هذه التفاصيل والمناقشات؛ وهي مدى جودة هذه الخطوة التشريعية بعد إجراء الموازنة الدقيقة والمتخصصة بين الإيجابيات والسلبيات.

أي وفق المثال، يجب أن يكون للمنظم عين تقييم، ونظرة ثاقبة، تستطيع من خلالها تحديد جدوى التشريع عبر الموازنة الواقعية بين الإيجابيات والسلبيات؛ كل ذلك بغرض الإجابة الصريحة من هذا الاستقراء وتلك الموازنة على سؤال واضح هو: هل من الصحيح قانونيا وماليا واقتصاديا إنشاء سوق مالية جديدة؟ كل هذه العمليات الفكرية والتطبيقية والاستقرائية السابقة الغرض منها ببساطة هو تنفيذ تقييم الأثر السابق لإصدار التشريع.

ثانياً: التقييم اللاحق لإصدار التشريع: ويتم العمل فيه على أمرين مهمين:
(1) دراسة تحليلية نقدية لمدى قدرة التدخل الشريعي على تحقيق مستهدفاته؛ وذلك عما نتج عن التشريع من آثار اجتماعية ومالية واقتصادية. لكن النقطة الأساسية في هذه المرحلة هي لنقد النتائج التحليلية؛ أي تحديد الثغرات في التشريع التي تركت الواقع بلا تنظيم وكذلك الآثار السلبية المباشرة وغير المباشرة للتشريع على الجهات المستهدفة.

ووفق المثال السابق، يجب القيام بدارسة تحليلية نقدية عما أسفر عنه إنشاء السوق المالية، كأن يتم تحليل نقدي للأوضاع في جميع طبقات أسواق المال بعد إنشاء السوق الجديدة (سوق أولى، وموازية، ثم سوق منظمة، وغير منظمة، ثم سوق إصدار، وتداول)، كما يجب أن يصل التحليل إلى المستويات الاجتماعية، وإلى القوى العاملة، ومستويات البطالة، ومستوى جذب الاستثمارات الأجنبية، وتنافسية الاقتصاد الوطني، وغيرها من المؤشرات التي تسمح بتقديم دراسية نقدية واقعية جوهرية؛ تنتهي بالإجابة الصريحة عن تساؤل دقيق، وهو مدى نجاح التشريع في إنشاء السوق المالية، أي هل تغلبت السلبيات التي ظهرت من التحليل والنقد على الإيجابيات والأهداف التشريعية التي كان من المراد تحقيقها لدى إصدار التشريع؟ أم لا؟

(2) دراسة استقرائية استنتاجية للتدخل التشريعي المقترح: أي لما كان يجب عليه أن تكون القواعد التشريعية أصلا لتجنب الآثار السلبية التي ظهرت من الدراسة التحليلية النقدية. وبحسب المثال، يكون من الواجب تقديم دراسة استقرائية استنتاجية عن مدى نجاح قانون إنشاء السوق المالية الجديدة، من حيث الإجابة عن تساؤلين؛ الأول هو: هل نجحت السوق في تحقيق الوظائف المالية، والاقتصادية، والاجتماعية التي كانت تقف خلف التشريع على شكل غايات تشريعية (نعم أو لا)؟ ثم ما هي الخطوة التشريعية المطلوبة من المنظم حتى يصلح نقاط الخلل ويغطي نقاط الفراغ التشريعي؟

وبعدها تكون الدراسة التشريعية اللاحقة لإصدار التشريع قد تمت؛ بحيث تتم الاستفادة من التجربة التشريعية في تحقيق درجة أعلى من الجودة والغايات التشريعية الأمثل للمصلحة العامة ومصلحة المخاطبين بأحكام التشريع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق