يحدث أن تكون جالسًا في إحدى مقاهي الرياض، تلاحظ على الطاولة المجاورة، رجل ياباني برفقة عائلته، يتأمل شاشة هاتفه بدقة. تركّز أكثر، تجده لم يكن يقرأ الأخبار، ولا يشاهد مقطعًا ترفيهيًا، إنما صورة عن مدينة ساحرة في صخرها وأرضها، إنها العلا، غرب السعودية.
في هذه اللحظة، تتبادر إلى ملامحك ابتسامة، تقول في نفسك: إن للعُلا نصيبٌ من الجمال بين وجهات العالم. ستكمل مراقبتك لهذا الياباني بصمت، محاولًا فهم كيف يرى هذه المدينة. ما الذي يخطر في ذهن السائح الياباني عندما يرى العلا لأول مرة؟ هل يرى فيها الامتداد الثقافي لحضارة عربية قديمة؟ أم صحراء مثالية للتأمل؟
لا داعي لأن تخمن. هناك أدوات أكثر دقة تكشف لك ما تعتقد أن السائح يراه، وما يراه بالفعل. قد نظن أن الياباني يأتي إلى العلا لأننا روّجنا لها باعتبارها وجهة تراثية، لكن ماذا لو أظهرت البيانات أن أغلب السياح اليابانيين يأتون بحثًا عن تجربة هادئة للتأمل في الطبيعة؟ ماذا لو كانوا أكثر اهتمامًا بالسماء الصافية لالتقاط صور فوتوغرافية فريدة بدلًا من التاريخ؟ أو ربما، على العكس، ينجذبون للقصص التاريخية، لكن لا يجدونها مقدمة بطريقة تتناسب مع أسلوبهم في استيعاب المعلومات؟
كانت سنغافورة خجولة بين جاراتها في آسيا، لا أحد يلتفت إليها كثيرًا، فهي لا تملك جبالًا شاهقة، ولا قصة عريقة يمكن أن تروى. لكنّها ملكت لي كوان يو، عقلًا يفكر ويحب أن يبحث في ما وراء الأشياء. قررت سنغافورة أن تترك صخب العملات التسويقية لغيرها، وأن تستمع، أن تصغي للناس من دون أن يتكلموا.
بدأت تجمع أحاديث الزوار، ماذا يريدون؟ ما الذي يشدّهم؟ ولماذا يهربون إلى أحضان المنافسين؟ كانت سنغافورة مستمعة جيّدة، اكتشفت أن الصيني يُحب الأضواء والمباني، والأوروبي يريد أن يرى المستقبل، بينما آخرون يبحثون عن ظل شجرة ومبنى قديم.
لن نغرق في التعريفات، لكن دعني أوضح ببساطة: البيانات السياحية هي كل ما يمكن أن نعرفه عن الزائر قبل أن يصل وبعد أن يرحل. من أين جاء؟ كم أنفق؟ ماذا أحب وماذا كره؟ هي أرقام واضحة كعدد الوافدين إلى جدة في الشتاء، وتحليل دقيق كمعرفة لماذا يفضل الأوروبيون العلا على الرياض. هي تقييمات يكتبها الزائر على منصة، وتعليق عابر على (أكس) يكشف عن رأيه في فندق.
لنسمّها كما هي: أدوات، أدوات تخبرنا كم شخصًا هبط في مطار المدينة، وكم دفعوا في مطاعم الرياض، وما الذي دفعهم لاختيار وجهة على أخرى. من تدفق الزوار إلى عاداتهم، إلى تأثير الطقس على قراراتهم، إلى توقعاتهم للمستقبل — كل ذلك يمكن قياسه، وبالتالي يمكن التحكم فيه.
لنفرض أن أمامنا أرقامًا: عدد الزوار، كم أنفقوا، من أين جاؤوا، وكم بقوا. كيف نحول هذه الأرقام قرار صحيح قد يحرّك فرصًا استثمارية؟ دعنا نضعها بخطوات.
أولًا، انظر إلى الصورة الكبيرة، كم زائرًا وصلنا؟ لنقل ٥٠٠ ألف إلى الرياض هذا العام. هل هذا جيد؟ لا تعرف حتى تسأل: كم كان العام الماضي؟ إذا زادوا عن ٤٠٠ ألف، فهذا نجاح، لكن إذا كانوا ٦٠٠ ألف سابقًا، فهناك مشكلة تطرق الباب.
ثانيًا، كم أنفقوا؟ إذا جاءنا ٥٠٠ ألف زائر وترك كل منهم ١٠٠٠ ريال، فهذا ٥٠٠ مليون. لكن انتظر، هل هذا كثير أم قليل؟ قارن بما ننفق لنجلبهم: حملات تسويق، رحلات طيران مدعومة، فعاليات. إذا كلفنا استقطاب كل زائر ٥٠٠ ريال، فنحن نربح، لكن إذا كلفنا ١٥٠٠، فلا فائدة.
ثالثًا، اعرف من أين يأتون ولماذا. إذا أظهرت الأرقام أن ٦٠% من الزوار خليجيون يقضون أسبوعًا في جدة، بينما الأوروبيون ١٠٪ فقط ولا يتجاوزون يومين في العلا، فهناك سؤال: لماذا لا يبقى الأوروبي أكثر؟ هل الطريق صعب؟ هل التكلفة عالية؟ البيانات لا تجيب، لكنها تشير إلى المكان الذي يجب أن تبحث فيه.
رابعًا، اسمع الزائر نفسه. كم المدة التي قضاها؟ ماذا اشترى؟ إذا أنفقوا على التسوق أكثر من الفنادق، فالأسواق هي كنزك القادم. إذا قالوا في تعليقاتهم إن المطاعم غالية، فهناك مشكلة.
لا توجد خطة في هذا العالم، سياحية كانت أم غيرها، تسير على طريق مستقيم دون أن تتعثر. لكن متى تخبرنا البيانات أننا نتركب خطأً؟
أول ما يجب أن نراه هو الفجوة بين ما نتمناه وما يحدث. تخيّل أنك أطلقت حملة تسويقية ضخمة لجذب الزوار إلى وجهة جديدة، وضعت فيها الملايين، وتوقعت أن تمتلئ الفنادق بالضيوف. لكن الأرقام عادت لتقول: جاء نصف من توقعت. لماذا؟ هل كنتَ تحلم بأرقام طموحة جدًا، أم أنك لم تسأل الزائر ماذا يريد؟ البيانات تكشف لك أن الحملة ربما كانت صاخبة، لكنها لم تصب الهدف.
ثم، انظر عكسيًا: لماذا لم يأتوا؟ قد تلوم الإعلانات، لكن البيانات قد تشير إلى شيء أعمق. ربما الأسعار فوق السوق الذي تستهدفه، أو ربما الزائر جاء واكتشف أن الوعود التسويقية كانت كبيرة، لكن التجربة أقل من ذلك بكثير. إذا أنفقتَ على جذب عائلات، لكن الفنادق لا تقدم غرفًا تناسبها، فهنا مشكلة في فهم البيانات.
هل سباق السياحة ينتصر به من يملك الوجهة الأجمل؟ لا أعتقد، الغلبة لمن يملك البيانات الأدق، والأقدر على قراءة الأرقام وترجمتها إلى قرارات صحيحة. فالسؤال تحوّل من: ماذا نملك؟ إلى: ماذا نعرف عن من يزورنا؟
الرسالة هنا:
- من يفهم أنماط الإنفاق، يصمم تجربة مربحة
- من يحلل حركة السياح، يعرف كيف يعيد رسم خريطة الاستثمار
0 تعليق