كانت لمهنة الفران خشية ومهابة، رهبة واتقاء مصادمة عند سكان الحي خاصة، كان التوجه إلى فضائه إلزامي لا يمكن الاستغناء عنه أو المضي دون التوقف أمامه. محجة عبور يومي للصغار مثل الكبار النساء مثل الرجال. محور تدور حوله حياة الساكنة كيفما اختلفت مستوياتها الاجتماعية. زيارته طقس إجباري لا محيد عنه، ومنتوجه عماد ثقافة المائدة.
يدخله المنتوج عجينا ويخرج منه غير ما دخله، شهيا لا يمل من أكله أحد في البلاد من العباد. يأتيه الزبناء بألسنة تفيض تلطفا ومهادنة ورجاء وتوددا وتوصية بالعناية باللوح المطروح (الوصلة)، وما حواه من عجين. مهما تغيرت طرق عمل الأفران وأشكالها، فكل إبداع في ثقافة المائدة افتتاحيته رهينة ببراعته وفن مهارته. فإما أن يسعد أصحاب الخبز، أو يكدر صفوهم، عندها تكال عليه اللعنات والشتائم من كل حدب وصوب من الحي، إذا عاد الخبز إلى البيت يابسا أو به شيء من الاحتراق؛ غير أن هذا الشتم والسخط يمارس تقية وفي غياب عامل الفران لا في حضوره، وإلا بدت الخصومة والبغضاء بين الأسرة وعامل الفران؛ وهو ما ليس في صالح الأسرة.
لقد تجذرت هذه الخصومة، وأصبحت من مسلمات علاقة أسر الأحياء بأفرانها، فذاع صيتها إلى ذلك البعد الذي جعل أحد شعراء الملحون بلعيد السوسي يوثقها في أدق جزئياتها في قصيدته “الفرانة” التي يقول في مطلعها، أو ما يصطلح عليه في فن الملحون في حربتها: “لله يا الفرانة ليكم جيت داعي مول الفران ** ديما خبزي عنده عدو فرانه”.
سواء تعلق الأمر بالضروري كالخبز أو الكمالي كحلويات الأعياد والمناسبات أو بالوجبات الاستثنائية كطهي العجائن المحشوة باللحم أو بالشحم، أو بالقديد (الرغايف أو الخبز بدوازو) أو طهي الطحال أو الخراف، فقد كانت لهذه المهنة التي اسمها مرتبط بالمكان، الفران، لا بما يُنتج كباقي المهن، إلى وقت غير بعيد، أهمية اجتماعية وحضارية، قبل غزو الأفران الغازية والكهربائية للبيوت. إن الفران كان يمثل إحدى المكونات الخمسة المؤسِسَة للتجمع السكاني في أحياء فاس القديمة، فهو من الضروريات العمرانية إلى جانب مصدر الماء العمومي (السقاية)، والمدرسة القرآنية (المسيد) والجامع للصلاة والحمام. ولأهمية دور الفران في الحياة الاجتماعية فلقد تعارف على أن له أسبقية البناء عند إنشاء الأحياء قبل دور العبادة؛ فقيل: “الفران سبق الجامع”. كما نجد ذكر الفران حاضرا في أرجوزات الاطفال، من خلال ارتباطه الوثيق بالفلاحة والمطاحن وضرورة طهي الخبز في الحياة اليومية: “أشتا تتا، تتا ـ أولاد الحراثة. المعلم بوزكي ـ طيب لي خبزي بكري. نكلها أنا وختي”.
كان الناس يمازحون أطفالهم فيقولون لهم: “علاش فلقتي (شججت) بنت الفران؟”، فيتبرأ الأطفال من هذه التهمة إلى أن يدركوا أن المقصود ببنت الفران هي الخبزة.
كان سكان الحي يحسبون لعامل الفران كل حساب، فلا يتجاوزونه في الأعياد، أو في شعبان وفي رمضان من العطاء، وله نصيب من زكاة الفطر، وأعطيات الأعراس والعقيقة (السابع) وله نصيب من الحلوات المطهوة في الفران.
إن أهمية الفران لا تكمن في ذاته؛ بل في منتوجه تحويل العجين إلى مادة غذائية لها قدسية عند المغاربة ومكانة خاصة.
أولا مادة غذائية لا يستغنى عنها في كل الوجبات، حتى أن هناك مناطق في المغرب، حتى الكسكس نفسه لا يؤكل إلا مع الخبز. وللخبز احترام فائق حيث لا يساوى بينه بين الأزبال، بل يحفظ به في أكياس أو حاويات خاصة. كما يسمى “نعمة الله”، ويقبل إذا عثر عليه في الأرض ويوضع في ثقب في الحائط أو في مكان مرتفع حفظا له من أن تدوسه الأقدام ويلوث بالأوساخ. فنجد في ثقب أسوار المدينة القديمة عددا لا يستهان به من قطع الخبز المحفوظة من التعرض لعبث الأقدام. وفي البيوت فاليابس منه الذي فضل من الاستهلاك، يحتفظ به إلى أن تحضر منه وجبات مثل “تختوخة” في فاس القديمة بإدام وقديد الخليع، أو يدق ويفور مثل الكسكس ويؤكل بالقرفة والسكر والحليب. وفي مناطق أخرى من المغرب تصنع منه أكلات مختلفة؛ منها “الرْفيسة العَمْية” التي تحضر هي الأخرى بالقديد وحبوب القمح.
لقد سمت وتجذرت قدسية الخبز في الموروث الشعبي حتى أصبح من الاستعارات الرمزية للحياة المطمئنة والغذاء الموفور؛ فأصبح عنصرا من عناصر الدعاء، فيقال: “الله يعطيك خبزة مستورة ما عجنوها يدين ما شافوها عينين ما طابت فالفران”.
فعن طريق الخبز تعمقت علاقة العاملين في أفران طهي الخبز مع مجتمع الحي، إلى درجة أنهم يعرفون كل الأسر بأسمائها وعدد أفرادها، ومستواها الاجتماعي، من خلال احتكاكهم اليومي مع هذه الأسر وفي كل المناسبات. فمهنة الفران لغز محير. فمن بين العشرات من الألواح والمئات من الخبز الذي يفد على الفران يوميا، يعرف المعلمون فيه بعد الطهي، كل خبز لأي لوح ينتمي وعدد حمولته ونوعه، ونادرا ما يقع خطأ في العدد أو النوع أو الانتماء إلى اللوح.
إلى جانب “المعلم” الذي يدخل الخبز إلى الفرن ويسحبه وهو واقف في “الحفرة” المقابلة مباشرة للفرن، هناك مهنة المساعد ويسمى “الطراح” الذي من مهامه ترتيب الخبز في الألواح، كما يحمل لوح الخبز الكبير إلى الأسر التي عدد أفرادها كبير، أو التي لها مناسبة ختان أو عرس، أو جنازة، أو عقيقة، أو يحمل الخبز إلى الأسر التي يتعذر عليها القدوم إلى الفران لسبب من الأسباب، مقابل مكافأة بسيطة. كما يحمل لوح الخبز إلى الحوانيت التي تبيع الخبز الذي يعرف بـ”خبز السوق”.
وعن هذا الخبز ونظام عمل الأفران، يقدم لنا روجي لوطورنو في كتابه “فاس قبل الحماية” لمحة سريعة؛ فيقول: “وخبز السوق… لا يخبز إلا خمسة أيام في الأسبوع، إذ يعطل العمل لزاميا يومي الثلاثاء ويوم السبت؛ إلا أن رئيس طائفة الحرفة يملك حق طهي الخبز للطلبة والمساجين”.
فنظرا لأهمية مهنة هذا المساعد الطراح، وعلى الرغم من أن المجتمع ينظر إلى وظيفته بنوع من الدونية، كان أمين زرزاية، حمالة البضائع في فاس القديمة، يبعث بكل منتم جديد إلى مهنة أمانته للعمل أولا طراحا في أحد الأفران أو إلى أكثر من فران، حتى يتمكن هذا المتعلم الجديد من التعرف على دروب وأزقة فاس القديمة وعلى عناوين الأسر وأيضا حتى يكسب ثقتها قبل البدء في مهنة زرزاية.
لقد شكل الخواص أهم موارد الفرانين؛ فالنساء تهيئن العجين وهو عملهن اليومي، فإن تعذر بعث وصلة العجين إلى فران الحي مع أحد أفراد الأسرة أو الجيران، فإنها تضع وصلة العجين أمام باب دارها، وكل من مر من أمام البيت يحمل وصلة العجين إلى الفران. وفي حالة وجود المنزل في درب أو زقاق بين فرانين كما هو الحال في درب الحنش الذي يربط حي زقاق الماء وحي الشرابليين، فإن المرأة تضع وصلة العجين في اتجاه الفران الذي ترغب في طهي الخبز فيه.
وحسب درجة الحرارة التي وصل إليها الفران، فإن المرأة تبعث بعد وصول وصلة العجين إلى الفرن من يحضر الخبز بعد فترة ما بين ساعة وبين ساعة ونصف الساعة. وأحيانا يحضرها الزوج وهو عائد من عمله أو الأولاد من المدرسة أو من العمل.
وإن تعذرت إمكانية إحضار الخبز فإن خادم الفران الطراح ينوب عن أفراد الأسرة في حمل الخبز إلى دورهم مقابل “ربع قرص أو حتى نصف قرص أحيانا”، يقول روجي لوطورنو. يتم أداء أجرة الفران إما يوميا أو أسبوعيا أو شهريا، حسب الاتفاق بين الفران وزبنائه. كما أن هناك من الزبائن الفقراء من يؤدي ديون الفران المترتبة عليه لاحقا. ونظرا لأهمية الخبز في حياة الساكنة فلا يحرم أحد من خدمات الفران؛ غير أن الفران في حالة عن إمكانية الأداء الفوري، فإنه يحتفظ أحيانا بخبزة من اللوح كرهن حتى يتم الأداء.
في فاس القديمة، كان عدد الأفران بداية القرن العشرين أربعة وأربعين فرانا و260 رئيسا وعاملا ومتعلما، حسب كتاب “فاس ما قبل الحماية”، “وغالبا ما كان أصلهم من البادية، وخاصة من قبيلة التسول، شمال تازة.”
ويتكون طاقم الفرن من مدير، وهو “المعلم” الذي مهمته الأساسية مراقبة سير العمل، ومساعدين لطهي الخبز وترتيبه في الألواح بين واحد وثلاثة، ومن عدد من متعلمين “الطراحة”، يتراوح عددهم ما بين واحد على الأقل وأربعة على الأكثر، أي ما مجموعه ستة عمال في المعدل. وهذا العدد له علاقة بأهمية الحي ويسره أو بكثافته السكانية.
لقد شكلت العلاقة بين الخبز ونشأة الزراعة مجال بحث للعلماء؛ فالخبز هو أحد أقدم الأطعمة التي أنتجها الإنسان عبر مر العصور، إذ اكتشف علماء الحفريات والباحثون بقايا متفحمة لخبز تم إعداده قبل 14 ألفا و500 عام في موقد حجري بشمال شرق الأردن. وهذا يدل على أن الإنسان أنتج هذا العنصر الغذائي الحيوي قبل آلاف السنين من اكتشاف الزراعة. لقد عرف عن المصريين القدماء (2650-2000 قبل الميلاد) عمل العجين المخمر وأنتجوا أنواعا مختلفة من الخبز. كان الخبز يُستخدم لخدمة المعابد ويقدم أيضا كقرابين.
وكانت للأسر الغنية أفرانها الخاصة، حيث توظف عمالا مهمتهم الرئيسية طحن الدقيق وخبز الخبز. وهذا ما نجده أيضا في فاس القديمة حتى بداية القرن العشرين؛ مثل أسرة الشرفاء الوزانيين، أو أسرة المقارى الذين لكثرة عددهم، كان لهم فرانهم الخاص.
لقد لعب الخبز دورا أساسيا في المساعدة على الحياة العلمية؛ فطلبة القرويين المقيمون في المدارس التابعة لها يحصلون على خبزة يوميا في أطار مؤونتهم. فالمقولة سالفة الذكر: “الفران سبق الجامع” تتمثل في فرن سبع لويات، الذي كان ملتصقا عمرانيا وإداريا مباشرة بجامعة القرويين، والذي يعد من أقدم أفران مدينة فاس وأقدم من تأسيس جامعة القرويين نفسها، (التي أسست عام 859 م.) فرجوعا إلى ما ورد في الحوالات القديمة، جعل هذا الفران تحت تصرف القاضي، فكانت كل مداخيله تدار من طرفه، حتى يمكنه توزيعها على الفقراء والمحتاجين.
وإن كانت مهنة الفران تبدو من الوهلة الأولى مستقلة تمام الاستقلال بذاتها، إلا أنها رهينة بشكل كبير بزراعة الحبوب.
ومن ثم، فازدهار العمل في الأفران قديما كان مرتبطا بوفرة المحاصيل وجودتها وبنشاط الطواحن وحركتها. فمع تعطل هذين النشاطين الفلاحي والإنتاجي، يتوقف أو يتباطأ نشاط الأفران. وكنظرة عن نشاط الرحى والطواحن في فاس القرون الوسطى يقدم لنا حسن الوزان وصفا لهذه الحركة في كتابه “وصف إفريقيا” كالآتي: “يوجد بداخل فاس قرابة 400 طاحونة، أعني أبنية مشتملة على رحاء يمكن أن يبلغ عددها ألف رحاء، إذ تتكون كل طاحونة من قاعة كبيرة ذات أعمدة قد تضم أحيانا أربعة أو خمسة أو ستة رحاء. ويطحن قسم من سكان الضواحي قمحهم في المدينة، ويوجد بعض الباعة يدعون بالدقاقين، لهم طواحن يستأجرونها. يشترون الحب ويطحنونه، ثم يبيعون الدقيق في دكاكين مستأجرة كذلك؛ فيحصلون من هذه المهنة على ربح وفير، لأن جميع الصناع الذين لا تكفيهم وسائلهم لاختيار الحبوب يشترون القمح ويطحنونه في بعض الطواحن الخاصة بأبناء المدينة مقابل (بايوتشي) لكل كيل (رودجيو). وجل هذه الطواحن في ملك الجوامع والمدارس، والقليل منها في ملك الخواص، وكراؤها مرتفع يبلغ مثقالين لكل رحى”.
لقد عانت هذه المهنة ليس من جهة دخول أفران الحداثة إلى البيوت فقط، بل أيضا من ناحية مادة التسخين، الحطب.
فعلى الرغم من دخول أفران كهربائية إلى الحياة العامة، حيث شهدت فاس القديمة أول فران كهربائي في حي الزيات في بداية الستينيات من القرن الماضي؛ غير أن هذه الأفران العمومية الكهربائية لم تحظ برضا السكان التقليديين.
للأسف الشديد، لم تتم العناية التي كان من المفروض أن تكون في فاس من لدن المهتمين بالتراث بالأفران من أجل التغلب على هذه الإشكالية في مجال الطاقة؛ مثل ما حصل في مدينة شفشاون، على سبيل المثال، حيث عمل المهتمون بالتراث هناك على القيام بمبادرة تعمل على التقليل من استعمال الحطب وتقليص تكلفة التسخين، من خلال تزويد الأفران بنظام الحمل الحراري لتقليص الغازات الدفيئة. وهذا ما سيساهم في تحسين مداخيل أصحاب الأفران وتسهيل ظروف عملهم. كما تطمح جمعيات أخرى إلى تعميم هذا النموذج الشفشاوني ليشمل الأفران التقليدية في كل المدن المغربية العتيقة، وكذا الحمامات التي تعتمد على الحطب.
في الختام، نرجو أن يقتدي المهتمون بالتراث في فاس بالتجربة الشفشاونية، قبل أن تصبح هذه البقية الباقية من الأفران في عداد المهن التي يتم ذكرها فقط ولن يعود لها وجود.
0 تعليق